حين يفقد الإنسان بوصلته: الإحساس بالتيه وعدم الانتماء وكيف يقود إلى الاضطرابات النفسية وتعطّل تحقيق الأهداف… ومنهجية استعادة الاتجاه والنجاح
حين يفقد الإنسان بوصلته: الإحساس بالتيه وعدم الانتماء وكيف يقود إلى الاضطرابات النفسية وتعطّل تحقيق الأهداف… ومنهجية استعادة الاتجاه والنجاح
Salah Abdeldayem
يشكّل الإحساس بالتيه وعدم الانتماء واحداً من أكثر المشاعر الإنسانية تعقيداً وإرباكاً. إنه ذلك الشعور الصامت بأنك غريب في مكان يفترض أن يكون مألوفاً، وأن خطواتك لا ترتكز على أرض واضحة، وأن الاتجاهات كلها متشابهة ولا تحمل لك إجابة. يعيش الشخص في داخله حالة من التفكك بين ما يشعر به وما يجب أن يكونه، بين توقعات الواقع واحتياجات الروح، فيفقد الإحساس بالهوية ويبدأ بالانسحاب من ذاته قبل أن ينسحب من العالم. هذا التيه النفسي لا يقف عند حدود المشاعر، بل يترك أثره العميق على الإنتاجية، العلاقات، القدرة على اتخاذ القرارات، وحتى على معنى الحياة ذاته. ومع الوقت، يتحول هذا الإحساس إلى دائرة مغلقة تولّد اضطرابات مختلفة، وتعيق الوصول إلى الأهداف مهما حاول الإنسان التظاهر بالقوة.
الإحساس بعدم الانتماء يخلق فجوة داخلية تجعل الشخص يبحث باستمرار عن مكان يناسبه، أو دور يمثّله، أو جماعة تمنحه الشعور بالأمان. وحين لا يجد ذلك، تتشتت طاقته بين محاولات التأقلم ومحاولات الهروب. يبدأ العقل في تفسير كل تجربة باعتبارها مهدّدة، وتتحول القرارات إلى عبء، وتصبح العلاقات ساحة اختبار لا تنتهي. هذا الضغط الداخلي يفتح الباب أمام القلق، الاكتئاب، نوبات الشك بالذات، واضطرابات الشخصية التي تنمو غالباً حين تغيب الهوية الواضحة ويضطرب الإحساس بالأمان. ومع مرور الوقت، يترك التيه بصمته على المسار المهني والشخصي، لأن الشخص لم يعد يمتلك بوصلة داخلية توجهه، فيفقد القدرة على المثابرة ويتراجع تركيزه على الأهداف، ويعيش حالة “حركة بلا تقدّم”.
تتعدد الأسباب التي تقف خلف الشعور بالتيه، وقد ترتبط بتجارب الطفولة التي تفتقر إلى الاحتواء، أو بانتقال الفرد إلى بيئات جديدة لم تمنحه الفرصة للتجذّر، أو بصدمات نفسية لم تُعالج وتركت أثرها على الشعور بقيمة الذات. كما يمكن أن يكون السبب هو ضغط المقارنات الاجتماعية، أو الانتقال بين هويات متعددة بحثاً عن قبول خارجي. وفي بعض الحالات، ينشأ التيه من عدم معرفة الشخص لنقاط قوته الحقيقية، أو من السير في مسار دراسي أو مهني لا يشبهه، أو من التشتت الناتج عن كثرة الخيارات الحديثة. مهما اختلف السبب، تبقى النتيجة واحدة: فقدان التوازن النفسي الذي يجعل الإنسان يبتعد عن ذاته خطوة بعد خطوة حتى يجد نفسه تائهاً دون اتجاه.
تغيير هذا المسار ليس مستحيلاً، بل يحتاج إلى منهجية واضحة تعيد بناء الارتباط بالذات. تبدأ الخطوة الأولى بالاعتراف بالمشاعر دون محاولة إخفائها أو التظاهر بالعكس، لأن مواجهة الحقيقة هي النقطة التي يبدأ عندها التغيير الحقيقي. يلي ذلك تحليل جذور التيه: ما الذي جعلك تفقد الإحساس بالانتماء؟ ما البيئات التي أضعفت شعورك بذاتك؟ ما العلاقات التي زعزعتك؟ الوثوق بالإجابات يفتح الباب لبناء هوية جديدة أكثر صدقاً. كما يساعد التركيز على قيمك الأساسية بدلاً من أدوارك المفروضة على تحديد الاتجاه، لأن الشخص حين يعرف ما يؤمن به وما يريد فعلاً، يصبح الطريق أوضح مهما كانت الظروف.
منهجية النجاح الجديدة تعتمد على خطوات صغيرة وثابتة تعيد للذات توازنها. يشمل ذلك وضع أهداف بسيطة وقابلة للتحقق كي يستعيد الشخص الإحساس بالسيطرة، وتبنّي طقوس يومية تمنح شعوراً بالاستقرار، وتقليل المقارنات التي تسرق وضوح المسار. كما يفيد الانخراط في دوائر اجتماعية صحية تسمح بالتعبير دون خوف، وبناء روتين يدعم الشعور بالانتماء مثل الانضمام لمجموعة تعلم، أو نادي، أو عمل تطوعي. يساعد كذلك تطوير مهارات التأمل والوعي الذاتي على تهدئة العقل وإعادة الاتصال بالداخل، بينما يمنح العمل مع مختص نفسي مساحة آمنة لفهم الجذور العميقة للتيه وتصحيحها تدريجياً.
حين يبدأ الشخص باستعادة نفسه، تتشكل بداخله بوصلة جديدة، لا تعتمد على الخارج بل على وضوح داخلي يجعل الاتجاه ثابتاً مهما تغيرت الظروف. يعود الإحساس بالانتماء تدريجياً، وتتحول القرارات إلى خطوات منظمة، ويتراجع الخوف من الخطأ، ويصبح الوصول إلى الهدف نتيجة طبيعية لمسار ناضج وواضح. النجاح هنا ليس مجرد إنجاز، بل استعادة الذات بعد رحلة طويلة من الضياع… واستعادة الذات هي أعظم أشكال النجاح.
© 2025 صلاح عبد الدايم. جميع الحقوق محفوظة. جميع المحتويات بما فيها المقالات، الكتب، والنصوص على هذا الموقع محمية بحقوق الطبع والنشر ولا يجوز نسخها أو إعادة نشرها دون إذن كتابي مسبق.
